علي أنغام هذا القطار المزعج " قطار أبو قير " ووسط محاولة تركيز في الأوراق التي أمامي لعلي أخرج من فراغ رحلتي بجملة مفيدة خرج هذا الصوت العفي ليشد انتباهي وتركيزي نحوه بعد أن غرقت خواطري في ملامح الكادحين من ركاب القطار فخلف كل منهم قصة تستحق أن تُكتب ....
رسمت شكلاً في مخيلتي لصاحب هذا الصوت العفي فوجدته فحلاً يشق الصفوف ولكن الحقيقة ليست دائماً كما يرسمها الخيال ...
بدأت الصورة تتضح وإذا بطفل صغير يخرج من بين الأقدام .. ضعيف البنية ، ملامحه يبدو عليها كبرياء الفقر وعجّز الهم وتفاؤل من سلم تدبير رزقه لله وصرامة من علمته الدنيا كثيراً ، يحمل بين يديه صفاً من الكتب لا أستطيع حملها متزناً وخاصة مع اهتزازات القطار العنيفة والتي كان يتعامل معها بكل سهولة ويسر وكأنه يروضها ....
لم تكن ملابسه بالهيئة التي تؤهله لركوب أي وسيلة مواصلات أخري غير القطار ولولا أنه القطار لما كان للملحمة التاريخية بين الملابس المتسخة والملابس المعطرة بعرق الفواعلية أن تتم ....
" علم أولادك انجليزي وفرنساوي يا بيه بـ 3 جنية ... ارسم ولون يا باشا أجمل هدية للأولاد ... يلا بـ 3 جنية هادي أولادك هادي أحبابك بـ 3 جنيه يا باشا ... ها حد عنده حاجة ورا .. خلاص كلو سلم ... " .....
هكذا كان يروج لبضاعته بعد أن يضع نسخة من الكتاب علي رجل الزبون ثم يعود ليجمع جميع النسخ بعد أن يُكمل التوزيع علي العربة كاملة ... هذا يشتري وهذا لا يشتري وهو لا تفتر عزيمته وكأنه يسابق القطار يريد أن يصل ...
لا أعرف ما الذي جذبني إلي ذلك الطفل بصورة أجبرتني علي ترك مقعدي والسير وراءه لأتابعه وقد حملنّي هذا مشاق كثيرة في محاولة شق الصفوف ولذلك فأنا أرفع له القبعة ....
ظل الطفل يوزع ويبيع طوال الطريق فهذا يشتري وهذا لا يشتري وهو لا يغير طريقته مهما تغيرت حوله الظروف حتي وصلنا إلي العربة الأخيرة والتي كانت قليلة العدد إلي حد ما مقارنة بباقي العربات ...
دخلها كعادته بندائه " علم أولادك انجليزي وفرنساوي يا بيه بـ 3 جنيه " ...
ولم يكد يمر علي أول مجموعة ركاب حتي استوقفه أحدهم والذي يبدو علي سحنته ملامح تقل الدم وسأله : إنت في سنة كام يا حبيبي ..
رد الطفل وهو يرتب الكتب : مش في مدرسة وهم أن يمشي فأوقفه مرة أخري ...
وسأله : عندك كام سنة طيب ؟! ..
رد الطفل : المفروض أبقي في أولي اعدادي ...
فخرج عليه هذا الثقيل بنصيحة غالية حيث قال :
لازم تقول لبابا يدخلك المدرسة .. اللي بتعمله دة غلط قول لبابا عمو قالي كدا ..
نظر إلية الطفل ثم قال : هتشتري الكتاب يا باشا ...
رد : لا يا حبيبي الله يسهلك ..
جمع الطفل كتبه التي وزعها ولم يكمل العربة ورغم أن العربة كانت منخفضة العدد كما ذكرت إلا أنه فضل الجلوس علي الأرض بجانب الباب بصحبه رزقه متأملاً الطريق بنظرات يملأها التحدي ..
جلست أنا بالقرب منه علي مقعد من المقاعد لأستمع إلي مجموعة من التحليلات الرائعة !! من بعض ركاب القطار والذين يتحدثون وكأنهم يعرفون كل شيئ عن تفاصيل حياته ... فأحدهم يقول ..
- هتلاقي أبوه ميت يا عيني ولا مطلق أمه بس إية أهله معندهومش من الأحمر خالص سايبين الواد في السن دة في الشارع نسوان أخر زمن والله يا اختي .. كان ذلك تحليل تلك السيدة التي يبدو عليها سحنة الموظفة الحكومية ...
رد عليها أخر بصوته الذي يبدو أنه بلع ضفدعاً قبل أن ينطق ...
- الأهالي بتصرف علي العيال .. الجيل دة عايز الحرق هتلاقيه بيهرب من المدرسة وعاوز يطلع قرشين عشان يشم كولاا ولا تلاقيه بيبرشم ...
أما الأخري فقد بدت عليها الطيبة قبل أن تنطق وتقول له ..
- هو انت بتعرف تقري يا حبيبي اللي بتبيعه ....
ظل الوضع هكذا فهذا يحلل وهذا يفسر دون أي مراعاة لشعور هذا الصغير مما استفزني فقمت وذهبت إليه ..
وقفت قليلاً بجانب الباب قبل أن استجمع دواخلي وانحنيت بالقرب منه ومددت يدي قائلاً السلام عليكم : أنا أدهم إزيك ؟ ..
لم تكن نفسيته هادئة ليرد السلام ويقوم ليحتضنني فكل ما فعله هو أن رماني بنظرة تحمل مزيجاً من المشاعر السلبية تجاهي ورد بفتور : أهلاً ...
جلست علي الأرض محاولاً إيجاد طريقة لفتح الحوار معه فلم أجد سوي التأمل في الطريق وترديد بعض الكلمات التي أشاركه بها وجدانياً في تأمله حتي وصلنا إلي محطة مصر فهم حاملاً كتبه ونزل من القطار ليبدأ رحلة أخري مع قطار أخر وحينها أوقفته فالتفت إلي وقد ملأ الضجر عينه ... عايز مني إية ؟! ..
# عاوز أدردش معاك شوية ممكن ؟! ..
# يا بيه أنا عاوز أخلص شغلي متعطلنيش الله يباركلك ..
# هشتري منك كل اللي معاك بس خلينا نتمشي ونتكلم شوية ..
كانت ابتسامتي كافية لتطمئنه كي نسير سوياً وأعتقد أن داخله كان يريد التحدث إلي أحد ما ..
خرجنا من باب المحطة بإتجاه طريق محطة الرمل وفي الطريق مهدت له ما أريد أن أسمعه منه وبدأت الحديث عن نفسي وظروفي وكليتي ... إلخ .. إلي أن وصلنا إلي كافتريا بشارع صفية زغلول بالقرب من سينما ستراند ...
كافتريا فخيمة .. جميع روادها من حاملي اللاب توب والأي باد وكأنهم جميعاً نسخة خرجت من فيلم أسف علي الإزعاج ..
دخلنا إلي الكافتريا بعد دقائق من التردد من هذا الصغير فهمت سببها عندما راقبت نظرات الجرسون والجالسين إلينا ..
" شاب محترم برفقة طفل من أطفال الشوارع !! " غريب حقاً ...
ظللنا نحدق في بعضنا البعض حتي جاء الجرسون بالمشاريب وأخرجت علبه سجائري واشعلت واحدة فاستأذنني في واحدة له فلم أمانع !! .. وهو ينفث دخان سيجارته ومرارة فنجان القهوة بدأ يحكي قصته بعد أن طلبت منه ذلك دون مقدمات ..
أنا سيد عندي 13 سنة المفروض كنت أبقي فـ أولي اعدادي بس طلعت من المدرسة ... أبويا مات فـ عركة في كرموز من سنتين الله يرحمه .. كان بيبرشم واترفد من كذا شغلانة لغاية ما اشتغل فـ المخدرات واتقتل بسببها ...
أمي بعد ما مات اشتغلت ممرضة في المستشفي بالعافية وعندي 3 اخوات بنات أصغر مني واديني شغال زي ما انت شايف ببيع كتب في القطر عشان اساعد أمي في مصاريف الأكل والشرب بتاع البيت ...
جدع يا سيد الرجالة في الدنيا مش كتير وانت راجل رغم إنك صغير بس جدع ومتحمل المسئولية .. معلش مع إن الصح إن وضعك يبقي أحسن من كدا وتبقي في مدرستك زي بقية الناس بس معلش حكم الزمن بقي ...
الظروف مبترحمش يا باشا الحمد لله احنا أحسن من غيرنا علي الأقل في شقة إيجار بنتاوي فيها غيرنا مرمي عـ الرضيف
كنت بتفكر فـ إية يا سيد وانت سرحان فـ القطر ؟! ..
الناس مبترحمش يا استاذ أدهم .. شفت ولاد الكلب اللي فـ القطر كل واحد طلع فيه القطط الفطسانة كأنه بايت في حضني امبارح .. بس الحمد لله الواحد بيرمي ورا ضهره وينسي ..
بدأت دموع سيد تنهمر وأكمل قائلاً ... إنت عارف يا أستاذ أنا كان نفسي بس أكمل علامي .. نفسي كنت أطلع ظابط عشان أقبض علي اللي شربوا أبويا مخدرات واللي قتلوه الله يجحمهم ..
المهم متخدش فـ بالك إنت يا أستاذ متشكرين علي القهوة .. إنت ناوي تطلعني فـ التليفزيون ولا إية ؟! ناويين تشحتوا عليه زي ما بيعملوا علي طول ؟! ..
لا متقلقش استني نقوم سوا .. دفعت الحساب وخرجنا من الكافتريا وهم هو بالذهاب .
أنا هتكل بقي يا باشا أي خدمات ..
استني بس احنا اتفقنا هشتري منك البضاعة ..
لا يا باشا كتر خيرك كفايا عليك القهوة متشكرين ..
استني بس أنا محتاج الكتب دية مش بعطف عليك .. تمنها كلها كام ؟ ..
80 جنية يا أستاذ ... طيب اتفضل
كتير دول والله يا باشا أنا هاخد حقهم بس ..
لا مش كتير انت تستحق أكتر من كدا يا سيد قولي ناوي تعمل بيهم إية ؟ ..
بدأت البسمة تعود له مرة أخري وقال ..
هدي مكسبي لأمي والزيادة هقسمه بالنص نص أجيب بيه كباب عشان اخواتي بيحبوه أوي والنص التاني أكل بيه من عند المحل دة ... وأشار إلي محل أكل سريع ولكن فخم شويتين .. خلينا نجرب أكل البهوات بقي ..
ودعت سيد بعد أن أخذت عنوانه علي أمل أن أحاول إيجاد سبيل لتحسين حالتهم وعودته للمدرسة وأعطيته رقم الهاتف الخاص بي وقبلت رأسه وانصرف ..
راقبته من بعيد بعد أن دفس المال في جيبه وكأنه يخفيه وذهب باتجاه ذلك المحل ... وصلت إلي باب المحل وقد دخل هو إلي الداخل ومازلت أراقبه ...
اقترب سيد من الكاشير ورفع رأسه قليلاً ... يا باشا
وكان سيد يقف وحده أمام الكاشير بعد أن علت أصوات صرخات الفتيات الرقيعة من تلك الجرثومة التي اقتربت منهم وبدأ الهرج يزداد في المحل فالجميع يبتعد عنه لملابسه المتسخة ورائحته التي لا تبدو جيدة ...
تنبه الكاشير لسيد وقام مسرعاً ثم قال .. اطلع برا يا ابني مفيش أكل هنا
براحة يا عم مش بشحت منك أنا معايا فلوس وعاوز اشتري ..
كان ذلك يحدث وهو يجذبه إلي خارج المحل فوقعت الفلوس من يده بعد أن أخرجها من جيبه مختلطة بباقي ما جمعه طوال اليوم ... وحينها نهره الكاشير حتي فلوسك معفنة زيك .. روح اشتريلك فول ولا طعمية تاكلها وبلاش قرف ..
لم يتحرك أحد ولم يعلق أحد وكأن شيئاً لم يكن وهدأ المحل مرة أخري بعد أن طُرد منه سيد ...
علي بعد أمتار وقف سيد أمام صندوق القمامة ودموعه تنهمر وأخرج من جيبه ما أعطيته إياه من أموال وألقاه في الصندوق وانصرف ...
لم تكن عيني وحدها هي من ترقبه فعلي باب المحل كان يقف هذا الشاب الذي طرده منذ دقائق يبكي محاولاً أن لا يراه المدير حتي لا يفصله من عمله .. لم يكن بالسهل عليه أبداً ما فعل لهذا الطفل ..
لا أعرف إلي أي طريق وصل سيد الأن فلم استطع الوصول لمنزله بعدها ... ربما أصبح تاجراً للمخدرات مثل أبيه وربما ظل بائعاً للكتب كما هو أو ربما ...
لم أركب القطار مرة أخري في حياتي إلا وظللت أبحث عنه لعلي أجده أو أسمع صوته يشق صفوف الراكبين منادياً علي بضاعته ..
كنت أريد حقاً أن أعتذر له فأفعالنا الحمقاء ورفضنا لمن هو أقل منا غير أنه يبني جدران من الحقد في النفوس إلا أنه ينشئ أحياناً أجيالأ ممن يصلحون لشغل مناصب هامة في المافيا المصرية ...
تباً لهذا المجتمع الذي يجبر الفقراء علي العمل سخرة لإسعاد الأغنياء ولا يسمح لهم حتي بالإقتراب من مجتمعهم إن لاحت لهم الفرصة ... حقاً إني أسف يا صديقي ....
محمد مندور
15-2-2013